365
الخميس 3 يناير 2019
صوت التلفاز كان أعلى كثيرا من المعتاد ذلك الصباح في صالة الاستقبال بمستشفى عكاشة للأمراض النفسية بالقاهرة ولكن -برغم أننا مازلنا في ساعات الصباح الأولى- لم يكن هناك أي من عاملي الاستقبال أو الأطباء أو حتى مساعدي الأطباء والممرضين فقد كان الجميع بلا استثناء مجتمعين أمام باب سراج باشا.
وكان التلفاز مازال يذيع مواد إخبارية:
"والآن نقدم توقعات حالة الجو فى مصر وبعض الدول العربية اليوم الخميس ، حيث يتوقع خبراء هيئة الأرصاد الجوية أن يسود طقس مائل للبرودة على شمال البلاد حتى شمال الصعيد معتدل على جنوب الصعيد نهارا شديد البرودة ليلا، كما يتوقع الخبراء أن يتكون الصقيع على المزروعات فى وسط سيناء، وتتكون الشبورة على..."
قبل أن أذهب بكم لنرى ما هنالك دعوني أعرفكم بنزيل مستشفى عكاشة سراج باشا والمسجل في سجلات المستشفى باسم سراج الدين محمد خورشيد وقد اكتسب اسمه سراج باشا من تعاملاته الراقية مع كل العاملين والنزلاء وملابسه الكلاسيكية المميزة فقد كان دوما حريص على ارتداء الروب دي شامبر أعلى البيجاما مع الخفين الانيقين مع لبس البذلة الكاملة في أيام الزيارات وصلاة الجمعة، وتراه دوما صامتا يقرأ ويدخن البايب -في الواقع أغلب الوقت هو يحشوه أو ينظفه!- بالإضافة لحرصه الشديد على حلاقة لحيته وتهذيب شاربه بشكل يومي، ويمكنني أن أصفه لك باختصار بأنه شبيه ب البرنس أحمد مظهر في فيلم الأيدي الناعمة!
لكن الغريب والمثير للإنتباه أن سراج باشا وقف اليوم بالبذلة الكاملة المكوية والحذاء اللامع وقد وقف في ممر الغرف أعلى مكتب المشرف المناوب وهو يرفع عقيرته بالكلام -مثل حسين رياض في فيلم وااسلاماه- على غير العادة.
كما اخبرتكم لقد كانوا كلهم يرفلون في النعيم إلى أن قرروا التخلص من الكلب الذي كان يحميهم ويقدم لهم كل ما يحتاجونه ولكنهم بطروا النعمة واجتمعوا في أحد أيام الصيف القائظ بإيعاز من سامي همام رأس الفتنة في البيت الكبير عقب العودة من المحجر، كان كل رجال آل همام هناك سامي ومحسن وزكريا وحسام وعلي وحتى محمد الولد الصغير ابن يسرا همام كلهم كانوا مجتمعين لبحث أمر الكلب وبدأ الكلام سامي الذي كان مثل الثعبان بكلامه مثل الفحيح بملابسه الفخمة الناعمة بألوانها الداكنة وسحنته القاتمة وسيجارته الروسية ذات الرائحة الكريهة وأخذ يعدد الحوادث التي هاجم فيها الكلب الغرباء وبالطبع ذكر المرة التي راح ضحيتها ذراع ابن العمدة السابق والذي لولا أن جدهم همام نفسه كان حيا لكان العمدة أخرجهم من القرية جزاء لفعلة الكلب.
وبدأ علي يدافع عن الكلب ولكن على استحياء ثم قال حسام همام:" لكن جدي كان يحب هذا الكلب كثيرا.." وحسام على الرغم من صغر سنه فهو معروف بالعقل الراجح والمنطق السليم، لكن كان من الواضح أن سامي قد كسب في صفه كلا من زكريا و محسن فسكتا ولم يعضدا كلام حسام أو علي واتجهت الأنظار إلى محمد يريدون أن يعرفوا هل هو مع أم ضد قتل الكلب، لكنه نظر لهم باستغراب وانصرف.
*******
"ولماذا يقتلون الكلب يا محمد؟"
كذا تساءلت يسرا وهي تحضر طاولة الغداء فأجابها محمد بكلمة واحدة "المحجر!" كلمة كانت كافية لها لتفهم ولتتذكر أنه لولا وفاة ابيها لما كان حدث أي شيء من هذا، كانت في الماضي تظن أن أباها لن يموت أبدا بل سيدفنهم جميعا هم وأبنائهم من بعدهم ولكنه فاجأ الجميع ومات!
في إحدى الليالي ذهب يتابع العمل بالمحجر على فرسه ويرافقه كلبه فقط كما كان يفعل منذ عشرات السنين ثم في الصباح لف الصمت كل أنحاء القرية فقد كانت الجثة قادمة محمولة على الفرس ومضرجة بالدماء وكلما رأى الجثة أحد الفلاحين ترك ما في يده وذهب خلف الفرس حتى تحولت المسيرة لموكب عظيم ضم أكثر رجال البلد يمشون خلف جثة حسن همام.
هي لم تر الجثة قط لكنها سمعت بما حدث لها من تشوهات وعندما سألتها الشرطة إذا ما كانت توجه التهمة لأحد؟ فكرت في الكثيرين الذين أذاهم أباها ولكنها تذكرت أيضا أنه ما من أحد من هؤلاء يستطيع أو يجروء على قتل حسن همام!!
وبعدها بيومين عاد الكلب في جسده عشرات الجروح لكنه كان حيا واعتنى به حسام من ساعتها وأصبح الكلب مرافقه الوفي من بعد أن كان مرافقا للجد.
وإذا ب سامي الآن يريد قتل الكلب زعما منه أن هذا أأمن للعمل حتى تقل ضغائن الناس ضدهم! بالطبع لم يذكر حقيقة كان الجميع يعرفونها وهي أن كلب همام منذ مقتل الجد لم يسمح ل سامي همام بالدخول إلى المحجر ولو لمرة واحدة حتى أنه في احدى المرات عقر ساقه فعلا!
*********
هناك مزايا عديدة لسكن العائلة كلها في بيت ومحيط واحد ولكن أيضا هناك العديد من العيوب ومن هذه العيوب إذا قرر أحدهم قتل أحد آل همام فكان عليه أن يواجه كلب آل همام وها نحن نرى قاتل ينتظر في الظلام أن ينام آل همام لكي يقتل أحدهم وفي جنح الليل انسل القاتل تجاه غرفة الهدف وفتحها بكل هدوء كمن يعرف الدار جيدا ثم اقترب من السرير وأخذ ينظر لثوان ل علي همام ثم عندما تأكد من انتظام انفاس النائم وضع يده في جيبه وأخرج القاتل سكينه من جيبه متأهبا لقتل علي النائم في سكينة أمامه ولكنه أجفل لما سمع زمجرة خفيضة!
في الصباح كانت جثة القاتل ماتزال راقدة بجوار سرير علي همام معقورة الرقبة تنظر للسقف في نظرة غير ذات معنى.
*******
بعد مقتل القاتل ذهب حسام الى مصطفى الشاعر الصديق الأوحد لجده ملتمسا عنده النصيحة هل يستمع لكلام سامي ويقتل الكلب ام ماذا يفعل؟
طبعا لا تقتله، هذا الكلب عمره اكثر من سبعة وثلاثون عاما وهو حالة نادرة بين الكلاب وقد كان خير رفيق لجدك حتى النهاية، فلا تجازي الاحسان بغير الاحسان، كما أنه كان الحيوان المفضل لجدك، فقال له حسام "أظنه من سلالة نادرة، فلم أر ولن أر مثله ابدا"
فقال عم مصطفى مؤمنا على كلام حسام "نعم يا بني هو من سلالة نادرة وهو آخرها ربما.. وقد لقيه جدك في الجبل إبان إقامة المحجر القديم في دراو اصدقك القول لطالما قلت لهمام أن هذا الكلب ليس كلب بل ربما شيء آخر."
ثم اقترب من حسام وهو يخفض صوته قائلاً بلهجة ذات معنى:"كما أنه الباقي من رائحة المرحوم فحافظ عليه."
ثم اقترب منه مرة أخرى كما لو كان سيقول
شيئاً ثم عدل القول ورحب لحسام قائلاً:"نورتنا يا حسام بك."
********
في المساء تعالت أصوات ابناء همام ونفس الخلاف الدائر هل يقتلون الكلب أم لا ولكن كانت معهم يسرا همام واعترضت بشدة بل واجهت عمها سامي بشكوكها في أنه اكترى قاتل ليقتل أباها وأمها ليخلو له الجو ويستأثر بالمحجر والثروات التي تأتي منه، ولم يسكت سامي هو الآخر فقد اتهمهم بأنهم يتعمدون إبعاده عن المحجر ويخططون للاستيلاء عليه برغم أنه له نصف المحجر شرعا وقانونا وعندما غضب الجميع منه وواجهوه بأن المحجر ملك العائلة كلها كما قال جدهم أكثر من مرة فاجأهم بأن أخرج سلاحه البيريتا من جيبه ومعه اوراق وقال:"حسنا يا ابناء همام.. سوف تقومون الآن بالتوقيع على عقد البيع للمحجر الجديد والقديم والبيت."
نظر الجميع لبعضهم البعض في صمت ثم قفز حسام على عمه سامي يريد أن يجرده من سلاحه ولكن رصاصة البيريتا كانت اسرع فوقع على الأرض ينزف من صدره وفوجيء الجميع برجال سامي يقتحمون المجلس بأسلحتهم ليؤمنوا سامي همام، حينها قال سامي بلهجة المنتصروهو يعاود الجلوس على الكنبة الكبيرة حيث اعتاد جدهم الجلوس:"أحب أن اعرفكم أن رجالي يحيطون بالبيت..لذا حفاظا على حياة بقيتكم دعونا ننس ما حدث ونكمل كلامنا.. سوف توقعون لي عقود البيع الآن ثم نسجلها في الغد بكوم امبو..هاه ما قولكم؟"
اختلفت الروايات فيما حدث بعد ذلك فهناك من يقول أن هناك جنود من الجن فتكوا برجال سامي همام وهناك من يقولون أن روح حسن همام تولت الدفاع عن أبناءه وهناك من يدعون أن الكلب وحده فتك بعشرة رجال في أقل من عشر ثوان ثم قضم حنجرة سامي همام.
وعلى الفور خرج علي همام ليأتي بالنجدة ومن الخارج دخل الرجال ليفاجأوا برفاقهم وقائدهم صرعى فوضع الجميع السلاح.
ساعتها خرجت يسرا همام بكل ثقة تمشي أمام الرجال المذهولين خرجت من الباب الأمامي للدار ثم أكملت طريقها لنهاية الشارع ولم يستطيع أي منهم أن يقترب منها بأي سوء، وكيف يفعلون وهي في حراسة الكلب كلب آل همام.
******
أثناء الحكاية لم يتكلم أي من طاقم العمل بالمستشفى أو حتى النزلاء بل ظل الجميع صامتون ينظرون إلى سراج باشا حتى أغلق فمه وعاد لهدوءه مرة أخرى ونزل من أعلى المكتب وأخذ ينظف البايب تمهيدا لحشوه بالتبغ، أحد الأطباء كان أول من انتزع نفسه من خيالات الحكاية وسأل سراج باشا قائلاً:" ولكن كيف عرفت كل ذلك يا سراج باشا؟!" فرد سراج باشا قائلاً:"لأنني كنت هناك أنا سراج الدين محمد خورشيد ابن يسرا همام وحفيد المرحوم حسن همام.
وكانت هذه الحكاية من المجنون الثاني.
******
ثم كان كلامي:
ترى هل حاز الكلام على الاهتمام
ترى هل من مخرج لشقي أعرج
هل أرضاكم الكلام يا سادة الظلام
******
وكان رد الليدي فلافيا:
سنرى كيف تجاوبك أيها الفاني
ولا تستعد بروحك للفرح أو التهاني
فكل داخل لعالمنا مفقود
حتى وإن كافح لعقود
الى الغد لقاءنا إذن يا فاني.