الخميس، 12 سبتمبر 2019

شبح المدرسة


-         " ألو . ؟ "
-         " ألو .. أمن الممكن أن أكلم حازم لو سمحت .؟ "
-         " أنا هو , من المتكلم .؟ "
-         " كيف حالك يا ولد .؟ وكيف حال الرفاق .؟ ماذا ألم تتعرف على صوتي بعد يا ذكر الخنفسة..؟ يالك من متخلف هاهاهاهاهاهاهاها "
-         " ( بدهشة ممزوجة بالفرح ) متخلف ..؟ إذن أنت رامي .. رامي الروبي .. كيف حالك أيها الشنقيط .؟ وأين هي أراضيك الآن .؟ ولم لم تتصل منذ فترة .؟ آه لحظة .. هل ذلك لأنك توفيت؟ وكيف تكلمني الآن إن كنت متوفيا أصلا .؟ .. "
-         " إسأل نفسك أيها الحمار .. كيف لي ان أكلمك تليفونيا وأنا متوفى .. يسعدني أن أخبرك يا حازم يا صعيدي بأنك مازلت أحمقا ومتخلفا أيضا برغم أنك الوحيد في الشلة الذي دخل كلية الهندسة."
-         " ( مغيرا دفة الحوار برقة , بعدما احمرت أذناه من الخجل ) ولكن قل بالله عليك كيف حالك الآن وأين تسكن ولماذا رحلت أنت واهلك من المدينة بهذه السرعة إنك حتى لم تنتظر امتحانات نصف العام ولم تحاول أن تودع أحد بل لقد علمنا نبأ رحيلك من جارك ذي النمش في وجهه."
-         " من هذا أيضا .؟ "
-         " ذاك الفتى البدين الخجول الذي كان يسكن في الشقة التي تجاور شقتكم .. أعني إبان سكناكم في المدينة ."
-         " ( بلهجة من يتذكر ) آه سلطان .. لابد أنك تقصد سلطان لكني لم أعرف أن سلطان لديه نمش من قبل ولكنها ملاحظة دقيقة من عبقرينو الشلة."
-         " كيف لم تلاحظ ذلك؟ .. إنه يغطي نصف وجهه على الأقل "
-         " حسنا يا عم المفتش السري , لا تعايرني بدقة ملاحظاتك , أنسيت العام الأخير لي معكم في المدينة ."
-         " ( بحذر ) ماذا عنه .؟ "
-         " ترى لو كنت تتمتع بدقة الملاحظة فعلا لتمكنت من معرفة الفرق في الاسم .. ( ثم بوحشية تختلط فيها الضحكة الماجنة ) ولكانت مي الآن من نصيبك انت وليست من نصيبي.."
-         " ( بانفعال ) اسمع يا رامي انا لم أحب أو حتى أستلطف هذه الفتاه يوما.. بل إنني لأراها صبيا أكثر منها بنتا بشعرها القصير دوما وبنطالها الضيق وما رأيتها يوما بنتا حقيقية ."
-         " ( بسخرية ) ولكنك لم تكن تفكر هكذا منذ عامين ونصف .. وإنني لأتذكر وجهك الآن حينما واجهتك هي بأنك حتى لا تعرف على وجه اليقين ما هو اسمها فقلت أنت قاطعا على نفسك سبل الوصل ( منى ) وكنت أنا أقف بجانبك أكاد أثقب ضلوعك بكوعي من كثرة اللكز حتى تنظر لشفتاي وتعرف أنها مي وليست منى أيها الأحمق, وتعرف كم حاولت أنا لأصلح سوء الفهم الحاصل بينكما ولكن دون جدوى  "
-         " نعم ثم بعدها بأسبوعين كنت أنت أميرها الذي يأتي كل يوم في سيارة والدك البيضاء كي يلقي عليها تحية الصباح ثم تراها بين كل حصة والأخرى حتى في وقت الفسحة بين الحصص صرت تهمل أصدقائك وتقضي جل وقتك معها.. ( بحقد )  بل إنك كنت تأخذ منا الشطائر كي تأكلها معها.. حقا لقد أصلحت مابيننا وكان دورك فعالا في التقريب بيننا , أشكرك بشدة أشكرك يا صديقي "
-         " وما شأني أنا إن كانت هي لم تميل إليك يوما ما .؟ "
-         " ( بلهجة من يحاول السيطرة على مشاعره ) حسنا يا رامي .. لا اعتقد أنك تتصل بي الآن لتناقش معي هذا الموضوع .. خيرا هل جد جديد هل من فتاة أخرى ستتخذني معبرا إليها .؟ "
-         " أيها الغبي .. أنا لم أبدأ هذا الحوار السقيم بل بدأته أنت بملاحظاتك العبقرية عن النمش , ولم أكن لأصل لهذه النقطة من الحوار لولا تجاوبك معي وليكن في علمك أنا لم أخلق نفسي جميلا بل ولدت هكذا دون إرادة مني أما عن عقد ومركبات النقص التي تصر على أن تتحفني بها فيمكن أن تتفرغ لها فيما بعد ولكني عندي الآن خبر هام لك ... ( ثم بصوت منخفض يدل على خطورة الأمر ) لقد عاد مرة أخرى .؟ "
-         " ( بلهجة غير واعية ) من هو الذي عاد .؟ "
-         " عم محمد طبعا هو الذي عاد أيها المتخلف ."
-         " ................................"
-         " ما بك لماذا صمت هكذا , هيا تكلم "
-         " (بعد أن ثاب إلى رشده ) ولكن كيف يعود .؟ .. لا أحد يعود من هناك .؟ "
-         " ولكن هذا ما حدث فعلا لقد أبلغني تامر منذ ربع الساعة حالما أنهيت مكالمتي معه كلمتك على الفور "
-         " ( بدهشة ) تامر .؟ ( ثم بلهجة متشككة ) ولكن لحظة .. أيعرف تامر رقم تليفونك .؟ .. و لماذا لم يعطيني إياه لأكلمك .؟ "
-         " ( بأسلوب جاف عملي ) لأنني طلبت منه ذلك.. المهم كيف سنتصرف في هذه المصيبة .؟ "
-         " أية مصيبة .؟ "
-         " حازم .. لقد عاد الرجل مرة أخرى للمدرسة ."
-         " ( بخوف ) ربما هو واحد آخر يشبهه .)
-         " هل قال لك أحد أنهم يصنعون فراشي المدارس في خط إنتاج بأحد المصانع الصينية ويجب أن يكونون طوالا بيض شعر الرأس عصبيين دوما ."
-         " لا لم يخبرني أحد شيئا من هذا القبيل ."
-         " إذن كيف يتشابه رجل مع آخر ليس قريبه ولا يعرفه مع العلم أن الأول قد مات منذ ثلاث سنوات تقريبا ."
عندها تذكر حازم ما حدث أيامها فلقد كانت تجربة مروعة واسمها تجربة الموت وقد تعلمها رامي – ذات إجازة صيف - من ابن عمة له زعم أنه تعلمها في السودان حيث يقيم مع والديه وكانت تتلخص في وضع روح جني أو شيطان في جسد آدمي شرط ان يكون الآدمي ميت أو على وشك الموت حتى تنجح التجربة وجاءت رامي الفرصة الذهبية إذ وقع عم محمد فراش المدرسة من الدور الثالث وأصيب بتهتك في وضرر مريع في أحشاءه وذهبوا به للمستشفى وسمعنا أن الأطباء أقروا بأن أيام الرجل في الدنيا معدودات وقرر رامي أن يذهبوا إلى الرجل في المستشفى ويجربوا التجربة قال ساعتها أنها الفرصة الوحيدة أمامنا و بالطبع كانت التجربة تحت ستار إنقاذ عم محمد من الوفاة ساعتها!ز
وقتها كنا سذج مجرد مجموعة من طلبة الصف الأول الثانوي وبالطبع انسقت أنا و محمود أيوب و تامر القصبي وأحمد رشاد وخالد حسين ومحمود عادل وراء السابع الذي كان رامي الروبي وترددت الكلمات حول سرير عم محمد بالمستشفى – الذي كان مستشفى خاصا لحسن الحظ – من فم السبعة في وقت واحد ونغمة واحدة :
"يا أهل الله
يا جن الأرض
تعيشوا هناك
اعطونا السر
الميت مات
في غيطه بات
مين جاب خبره
راعي بقره
سبعة مننا
سبعة منكم
خذوا الميت
ياللا خذوه ."
 ثم نرفعه كلنا سويا بأن يضع كل منا سبابة ووسطى ( يمين ويسار ) تحت جسد الميت نرفعه قليلا ثم يتلو رامي شيئا ما غامض لم نعرف ماهو أبدا وكان يصر دوما على إخفاؤه دونما أن يشرك معه في السر أحدا وعند تطبيق هذه التجربة على عم محمد استيقظ هو في الجزء الأخير من التعويذة بالضبط ونحن نبدأ  في حمله كل ما أذكره أن الرجل نظر إلينا بعينان متسعتان ثم أغمضهما مرة أخرى ولكن كلنا لاحظنا بعد وضع عم محمد على سريره مرة أخرى أنه يبدو عليه التحسن فهو يتنفس بضعف ولكن بانتظام وجلده بدا كما لو كان اقل شحوبا وحيوية.

الهم أننا عرفنا فيما بعد أن عم محمد قد توفى في المستشفى, داهمته نوبة قلبية ليلا ولم  ينقذه أحد فانتهت حياته بهذه البساطة وكلنا ظننا أن التجربة فشلت وانتهت عند هذا الحد.

وها هو رامي الروبي يعود مرة أخرى مذكرا إياي بهذه القصة الكئيبة.
"-هل مازلت معي يا ولد؟ هل تصغي لما اقول أم أنك أصبحت مصابا بالصمم؟."
"-لا .. أنا أسمعك بوضوح .. وماذا تريد مني الآن يا رامي؟"
"-سنذهب إلى المدرسة لنرى كيف عاد عم محمد من الموت."
"-لكن..."
"-يا أخي مازلت كما أنت جبانا رعديدا .. كنت أعرف أنك سترفض ولهذا تركتك للآخر، إسمع يا حازم لقد دعوت كل الرفاق القدامى الذين حضروا تجربة إعادة عم محمد لكي نذهب إلى المدرسة الليلة ونرى بأم أعيننا كيف عاد الرجل وكيف هو حاله.. فإنك إما أن تكون معنا أو علينا."
"-................"
"-إسمع يا حازم أنت تعلم أن الرجل يقيم بالمدرسة ولا يقيم معه أحد.. الموضوع لن يستغرق أكثر من 15 دقيقة سندخل المدرسة نرى حال الرجل ونخرج في هدوء نعود لبيوتنا لننعم بالأمان.. والآن للمرة الاخيرة هل انت معنا أم علينا؟"
"-معكم .. متى اللقاء؟"
"-الساعة الثانية بعد منتصف الليل عند الباب الخلفي للمدرسة..تمام؟"
"-تمام، أراك هناك."
"-حسنا سلام."
"-سلام"
**********
في تلك الليلة حدث الأمر سريعا ذهبنا كلنا إلى المدرسة وتسللنا عبر السور للداخل وما أن اقتربنا من غرفة عم محمد بالطابق الأرضي حتى رأينا الرجل كما نذكره تماما وقت وجودنا بالمدرسة، نفس الطول الفارع والهيئة النحيلة والشعر الأشيب الذي يغطي كامل الرأس برغم برغم سنوات عمره التي تجاوز الستين بسنين.
كان الرجل يلبس جلبابه الصعيدي المميز جالسا على الأرض يدخن النرجيلة وما أن لمحنا على باب غرفته حتى بدأ في الصياح وقام من مكانه في اقل من ثانية لتبدأ مطاردة عجيبة من رجل عجوز سبعيني لمجموعة من شباب الجامعة داخل مدرستهم الثانوية السابقة، لم أدر بحالي إلا وأنا أركض بكل قوتي حتى لمحت السور من حيث ما دخلنا فقفزت اعلى السور للسخارج في حركة واحدة لأواصل الركض حتى وصلت للبيت، لم أسأل أي من رفاقي بعدها عما حدث ولم أعرف كيف عاد عم محمد من الموت وطاردنا في المدرسة بنفسه.
**********
بعد هذا الموقف بعشر سنوات قابلت رامي الروبي مرة أخرى بالمصادفة في القنصلية المصرية بـ(جوهانسبرج) كنت أجدد جواز السفر وبعد السلامات والتحيات عاد الحوار مرة أخرى وسألت رامي وأنا أخفض صوتي:
"-ترى مذا حدث معك في تلك الليلة؟"
"-أي ليلة؟"
"-ليلة اقتحامنا للمدرسة لنرى عم محمد"
فانفجر رامي ضاحكا ومن بين ضحكاته سألني:
"-ألم تسأل نفسك ولو مرة لماذا عدنا كلنا تلك الليلة للمدرسة؟"
"-لكي نتأكد أن عم محمد عاد من الموت بالطبع."
"-وهل يعود الموتى يا متخلف؟"
ثم تعالت ضحكته مرة أخرى وهو يقول:
"-كان مقلبا .. كنا جميعا في الثانوية العامة فشلة وأنصاف فشلة وكنت انت الوحيد فينا الذي دخل كلية من كليات القمة وكنت حينها عدت من السفر لأدخل معهد كمبيوتر في 6 أكتوبر، وعندما التأم شمل الشلة كلها جاءتنا الفكرة ان نصنع فيك مقلبا لنضحك قليلا."
غلى الدم في عروقي من كلماته وفكرت للحظة ان أحمل مطفأة الحريق بجانبي وأنهال بها لأكسر جمجمته ثم بعد تفكيري لثوان وجدت أن الأمر تم منذ زمن وكان مقلبا من صديق الطفولة وأنه ليس بهذا السوء فسالته:
"-وعم محمد .. هل عاد من الموت فعلا؟"
"-لا أحد يعود من الموت يا عمر، كان الفراش الذي رأيناه احد أقرباء عم محمد وقد ساعد الشبه والليل على اقناعك بالأمر، أتعرف .. أنت الوحيد فينا الذي جرى ولو كنت توقفت لثلاث ثوان لكنت رايتنا جميعا غارقين في الضحك."
ثم وهو يضحك                                                                                                
"-لقد ضحكنا على منظرك وأنت تجري في المدرسة وحدك ثم تقفز من فوق السور لسنوات يا رجل."
عند هذا الحد لم أستطع قمت وخرجت من باب القنصلية أريد أن ابتعد عن رامي وعن كذبه العابر للزمن.
x

هناك تعليق واحد:

  1. روعة وأداء جميل وكتابة ممتعة ولو أنني استنتجت النهاية قبل ان اقرأها

    ردحذف